لقد أسهمت المعرفة المتجلية في آلاف السنين من الثقافة القديمة والتاريخ العريق في إغلاق الفكر والمفاهيم والنظرة الذهنية للإنسان بإحكام لتصبح عصيّة على الاختراق والسيطرة. فالإنسان يعيش في المستوى الثامن عشر من الجحيم، كما لو أن الله قد طرحه في زنازين كي لا يرى النور أبدًا. قَمَعَ التفكيرُ الإقطاعيُ الإنسانَ وخنقه وبالكاد أصبح قادرًا على التنفس. ليس لديهم أدنى قوة للمقاومة ولهذا يقومون بالتحمّل بهدوء... لم يجرؤ أحدٌ أبدًا على القتال أو الدفاع عن البِرِّ والعدالة. هم ببساطة يعيشون حياةً أسوأ من حياةِ الحيوان، وعامًا بعد عام، ويومًا بعد يوم يعانون من سوء معاملة وبطش النبلاء الإقطاعيين. لم يفكر الإنسان مطلقًا في أن يقصد الله ليتمتّع بالسعادة على وجه الأرض، وكأنه قد سُحِقَ كأوراق الخريف البنية اللون، الذابلة والمتساقطة. لقد فقد الإنسان ذاكرته منذ فترة طويلة ويعيش في الجحيم المدعو العالم البشري، منتظرًا مجيء اليوم الأخير ليهلك مع الجحيم نفسه، كما لو أن اليوم الأخير الذي يتوق إليه هو اليوم الذي سيتمتع فيه بسلام مُطَمئِن. لقد دفعت الأخلاق الإقطاعية حياة الإنسان إلى "الهاوية"، حتى أصبح أقل قدرة على المقاومة. أجبرت أنواعٌ مختلفة من القمعِ الإنسانَ على السقوط تدريجيًا في أعماق الهاوية، بعيدًا عن الله. وأصبح الله الآن غريبًا تمامًا عن الإنسان الذي يسارع إلى تجنبه حينما يلتقيان. لا يبالي الإنسان بالله، بل ينأى عنه كما لو أنه لم يعرفه أو يره من قبل. لقد انتظر الله طوال رحلة الحياة الطويلة للإنسان، ولكنه لم يوجِّه غضبه الكاسح نحو الإنسان، بل اقتصر على الانتظار بصمت ليتوب الإنسان ويبدأ من جديد. جاء الله منذ أمد طويل إلى عالم الإنسان، وتحمل المعاناة نفسها التي يتحملها الإنسان. لقد عاش مع الإنسان أعوامًا عديدة، ولم يكتشف أحد وجوده. ما زال الله يتحمل بصمت تعاسة عالم الإنسان، ويقوم بالعمل الذي أتى به معه. ومن جهة إرادة الله الآب واحتياجات البشر، فقد تحمل ألمًا لم يسبق أن تحمله الإنسان من قبل. لقد قام بخدمة الإنسان بهدوء وتواضع أمامه تلبية لإرادة الله الآب وحاجات الإنسان. إن المعرفة بالثقافة القديمة سرقت الإنسان بهدوء من حضرة الله وسلَّمت زمام الإنسان إلى ملك الشياطين وأبنائه. وقد أخذت الكتب الأربعة والكلاسيكيات الخمسة تفكير الإنسان ومفاهيمه إلى عصر عصيان آخر، مما جعل الإنسان يعبد أكثر أولئك الذين كتبوا الكتب والكلاسيكيات، معززًا أفكارهم عن الله. قام ملك الشياطين بنزع الله بلا رحمة من قلب الإنسان بدون درايته، مستحوذًا بكل سرورٍ على قلبه. ومنذ ذلك الحين أصبح للإنسان روح قبيحة وشريرة لها وجه ملك الشياطين. امتلأت صدورهم بكراهية الله، ويومًا بعد يوم انتشر خبث ملك الشياطين داخل الإنسان إلى أن استُهلِك الإنسان تمامًا؛ فلم يعد يتمتع بالحرية، ولم يستطع التحرر من شَرَكِ ملك الشياطين. لذلك لم يعد بإمكان الإنسان سوى أن يبقى في مكانه ويخضع للهيمنة، فاستسلم وأصبح خاضعًا له. لقد زَرعَ الشيطان منذ فترة طويلة في قلب الإنسان الغِر بذرة ورم الإلحاد، معلّمًا الإنسان أباطيلَ مثل "تعلَّم العلوم والتكنولوجيا، حقِّق الحداثات الأربع، لا يوجد إله في العالم". ليس ذلك فحسب، بل أعلن مرارًا وتكرارًا قائلاً: "دعونا نبني وطنًا جميلاً من خلال عملنا الدؤوب"، سائلاً الجميع أن يكونوا مستعدين منذ الطفولة ليخدموا بلدهم. أُحضر الإنسان من دون وعي أمامه، وقد أخذ الفضل دون تردد (في إشارة إلى أن الله يمسك بالبشرية كلها في يده). لم يستحِ أبدًا أو يشعر بالخجل. ومع ذلك، استحوذ بدون خجل على شعب الله في منزله، بينما كان يقفز كالفأر على الطاولة وجعل الإنسانَ يعبده كالله. يا له من مجرم! ينادي بمثل هذه الفضائح المروِّعة: "لا يوجد إله في العالم. الريح هي نتيجة للقوانين الطبيعية، والمطر هو الرطوبة التي تتكثف وتسقط قطراتٍ على الأرض. الزلزال اهتزاز لسطح الأرض بسبب التغيرات الجيولوجية، والقحط سببه جفاف الجو الناجم عن اضطراب نووي على سطح الشمس. هذه ظواهر طبيعية. أيّ جزءٍ هو عمل الله؟" حتى إنه ينادي بمثل هذه التصريحات الوقحة: "تطوَّرَ الإنسان من قِرَدَة قديمة، والعالم اليوم قد تطوّر من مجتمع بدائي منذ حوالي مليار سنة. وسواء ازدهرت دولة ما أو سقطت، فهذا يعود لقرار شعبها". كان يعلّقُ الإنسانُ صورته على الجدران رأسًا على عقب وعلى الطاولات لكي تُقدَّس وتُعبد. وفي حين أن الشيطان يصرخ قائلاً "لا يوجد إله" يعتبر هو نفسه إلهًا، دافعًا بالله خارج حدود الأرض بلا هوادة. يقف في مكان الله ويتصرّف كملك الشياطين. يا لسخافته المطلقة! يستنزفُ الشخصَ بالكراهية المُسَمِّمة. يبدو أن الله عدوّه اللدود ومناقِضُه. يخطط ليطرد الله بعيدًا في حين أنه لا يزال طليقًا دون عقاب. يا له من ملكٍ للشياطين! كيف يمكننا تحمّل وجوده؟ لن يهدأ حتى يشوّش على عمل الله تاركًا إياه منهارًا في فوضى كاملة، كما لو أنه يريد أن يعارض الله حتى النهاية، حتى تموتَ الأسماك أو تتمزّق الشبكة. إنَّه يقاوم الله عمدًا ويقترب أكثر من أي وقت مضى. لقد انكشف وجهه البغيض تمامًا منذ فترة طويلة، وأصبح الآن معطوبًا ومحطمًا، في محنة مريعة. إلّا أنَّهُ لا يلين في كراهيته لله، كما لو أنَّه يتمنى أن يلتهم الله كلّه في لقمةٍ واحدة لينفِّس عن الكراهية التي في قلبِه. كيف يمكننا تحمّله، هذا عدو الله المكروه! لن يحقق أمنيتنا في الحياة سوى القضاء عليه واجتثاثه بصورة كاملة. كيف يُمكِنُ السَّماحَ له بأنْ يَستَمِرَّ بالجري هائجًا؟ لقد أفسد الإنسان إلى درجة أن الإنسان يجهلُ شمس السماء وقد أصبح ميتًا ومتبلد الحس. لقد فقد الإنسان عقله الطبيعي. لماذا لا نضحي بكياننا كله للقضاء عليه وحرقه لننهي الخوف من الخطر المستمر ونسمح لعمل الله أن يتألّق قريبًا بصورةٍ غير مسبوقة. لقد حلَّت عصابة الأوغاد هذه بين الناس وسببت بلبلة وإرباكًا شاملين. لقد أحضروا جميع الناس إلى حافة منحَدَرٍ وخططوا سرًا لدفعهم وإسقاطهم ليحطّموهم ويلتهموا جثثهم. إنهم يأملون عبثًا في تعطيل خطة الله والتنافس معه مقامرين في لعبة لا تنتهي. هذا ليس سهلًا على أية حال! فالصليب قد أُعدَّ أخيرًا لملك الشياطين المذنب بأبشع الجرائم. لا ينتمي الله إلى الصليب وقد تركه بالفعل للشيطان. لقد خرج الله منتصرًا منذ زمن بعيد ولم يعد يشعر بالأسى على خطايا البشرية، وسوف يجلب الخلاص للكل.
– الكلمة، ج. 1. ظهور الله وعمله. العمل والدخول (7)