خلفيّةٌ عن أيُّوب (ب)
عقلانيًة أيُّوب
كانت خبرات أيُّوب الفعليّة وإنسانيتّه البارّة الصادقة تعني أنه اتّخذ أكثر القرارات والخيارات عقلانيّةً عندما فقد ممتلكاته وأولاده. كانت هذه الخيارات العقلانيّة لا يمكن فصلها عن سعيه اليوميّ وأعمال الله التي عرفها خلال حياته اليوميّة. أمانة أيُّوب جعلته قادرًا على الإيمان بأن يد يهوه الله تسود على جميع الأشياء؛ وسمح له إيمانه بمعرفة حقيقة سيادة يهوه على جميع الأشياء؛ كما أن معرفته جعلته راغبًا في طاعة سيادة يهوه الله وترتيباته وقادرًا على الامتثال لها؛ ومكّنته طاعته من أن يكون أكثر صدقًا في اتّقائه يهوه الله؛ وجعله اتّقاؤه أكثر واقعيّة في الحيدان عن الشرّ؛ وفي نهاية المطاف، أصبح أيُّوب كاملًا لأنه كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ؛ وكماله جعله حكيمًا، ومنحه أكبر قدرٍ من العقلانيّة.
كيف يجب أن نفهم كلمة "عقلانيّ"؟ التفسير الحرفيّ هو أنها تعني أن يتّسم المرء بالمنطق السليم، ويكون منطقيًّا وراشدًا في تفكيره، وأن تكون كلماته وأفعاله سليمة وحكمه راجحًا، وأن يمتلك معايير أخلاقيّة سليمة ومتناسقة. ومع ذلك، لا يمكن تفسير عقلانيّة أيُّوب بسهولةٍ. عندما يقال هنا إن أيُّوب كان يملك أكبر قدرٍ من العقلانيّة، فإن هذا يتعلّق بإنسانيّته وسلوكه أمام الله. فلأن أيُّوب كان صادقًا، استطاع أن يؤمن بسيادة الله ويطيعها، مما منحه المعرفة التي لم يتمكّن آخرون من نيلها، وهذه المعرفة جعلته قادرًا على تمييز ما أصابه والحكم عليه وتحديده بدقة، ومكّنته من أن يختار بتفكيرٍ ثاقب أدقّ ما يجب أن يعمله وما يجب أن يتمسّك به. وهذا يعني أن كلماته وسلوكه والمبادئ التي تستند عليها أفعاله والطريقة التي تصرّف بها كانت منتظمة وواضحة ومُحدّدة ولم تكن هوجاء أو متهوّرة أو عاطفيّة. لقد عرف كيفيّة التعامل مع كلّ ما أصابه، وعرف كيفيّة إحداث توازن في العلاقات بين الأحداث المُعقّدة وكيفية التعامل معها، وعرف كيفيّة التمسّك بالطريق الذي يجب التمسّك به، وإضافة إلى ذلك، عرف كيفيّة التعامل مع ما يعطيه يهوه الله وما يأخذه. كانت هذه عقلانيّة أيُّوب. وبفضل أن أيُّوب كان مجهّزًا بمثل هذه العقلانيّة قال: "يَهْوَه أَعْطَى ويَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا" عندما فقد ممتلكاته وأبناءه وبناته.
عندما واجه أيُّوب الألم البدنيّ الهائل، واستنكارات أهله وأصدقائه، وعندما واجه الموت، أظهر سلوكه الفعليّ مرةً أخرى وجهه الحقيقيّ للجميع.
الوجه الحقيقيّ لأيُّوب: صادقٌ ونقيّ وبلا رياءٍ
دعونا نقرأ أيُّوب 2: 7-8: "فَخَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ ٱلرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقَفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسْطِ ٱلرَّمَادِ". هذا وصفٌ لسلوك أيُّوب عندما انتشرت التقرّحات المؤلمة على جسده. في هذا الوقت جلس أيُّوب في الرماد لأنه كان يعاني من الألم. لم يعالجه أحدٌ أو يساعده على تخفيف ألم جسده؛ وبدلًا من ذلك، استخدم شقفة ليحكّ بها سطح الدمامل. من الناحية الظاهريّة، لم تكن هذه سوى مرحلة من مراحل عذاب أيُّوب، ولا علاقة لها بإنسانيّته واتّقائه الله، لأن أيُّوب لم ينطق أيّة كلماتٍ لإظهار حالته النفسيّة ووجهات نظره في هذا الوقت. ومع ذلك، لا تزال أعمال أيُّوب وسلوكه تعبيرًا حقيقيًّا عن إنسانيّته. قرأنا في سجل الفصل السابق أن أيُّوب كان أعظم جميع رجال المشرق. وفي الوقت نفسه، يُبيّن لنا هذا المقطع من الفصل الثاني أن هذا الرجل العظيم في المشرق قد أخذ بالفعل قطعة ليحكّ بها نفسه وهو جالسٌ في وسط الرماد. ألا يوجد تناقضٌ واضح بين هذين الوصفين؟ إنه تباينٌ يُظهِر لنا نفس أيُّوب الحقيقيّة: مع وضعه ومكانته المرموقين، إلا أنه لم يحبّهما ولم يوليهما أيّ اهتمامٍ؛ لم يهتمّ بطريقة نظر الآخرين إلى مكانته، ولم يقلق حول ما إذا كانت أفعاله أو سلوكه سيكون لهما أيّ تأثيرٍ سلبيّ على مكانته؛ ولم ينغمس في ترف المكانة، ولم يستمتع بالمجد الذي كان يصاحب المكانة والوضع. لم يهتمّ سوى بقيمته وأهميّة العيش في نظر يهوه الله. كانت نفس أيُّوب الحقيقيّة هي جوهره: لم يحبّ الشهرة والثروة، ولم يعش من أجل الشهرة والثروة؛ ولكنه كان صادقًا ونقيًّا وبلا رياءٍ.
فصل أيُّوب بين المحبّة والكراهية
يظهر جانبٌ آخر من إنسانيّة أيُّوب في هذا الحوار بينه وبين زوجته: "فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: "أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ ٱللهَ وَمُتْ!". فَقَالَ لَهَا: "تَتَكَلَّمِينَ كَلَامًا كَإِحْدَى ٱلْجَاهِلَاتِ! أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ؟". (أيُّوب 2: 9-10). رأت زوجة أيُّوب العذاب الذي كان يعاني منه، فحاولت إسداء النصيحة له لمساعدته على الهروب من عذابه، ولكن لم تلق "النوايا الحسنة" استحسان أيُّوب، بل بدلًا من ذلك أثارت غضبه لأن زوجته أنكرت إيمانه بيهوه الله وطاعته إياه، كما أنكرت وجود يهوه الله. كان هذا لا يُطاق عند أيُّوب، لأنه لم يسمح لنفسه قط أن يفعل أيّ شيءٍ يعارض الله أو يجرحه، فما بالك لو صدر عن الناس الآخرين. فكيف كان يمكنه الاستمرار في حالة من اللامبالاة بينما يرى الآخرين يُجدّفون على الله ويُهيِنونه؟ ولذلك دعا زوجته "كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ". كان موقف أيُّوب تجاه زوجته يشوبه الغضب والكراهية، فضلاً عن اللوم والتوبيخ. كان هذا هو التعبير الطبيعيّ عن إنسانيّة أيُّوب في التفريق بين المحبّة والكراهية، وكان تمثيلًا حقيقيًّا لإنسانيتّه البارّة. كان أيُّوب يتّسم بحسّ العدالة – وهو ما جعله يكره رياح الشرّ، ويلفظ ويدين ويرفض البدع العبثيّة والحجج السخيفة والتأكيدات الغريبة، مما سمح له بالتمسّك بمبادئه وموقفه الصحيح عندما رفضته الجموع وهجره المُقرّبون منه.
طيبة قلب أيُّوب وأمانته
بما أنه يمكننا رؤية التعبير عن جوانب مختلفة من إنسانيّة أيُّوب في سلوكه، ما الجوانب التي نراها من إنسانيّته عندما فتح فمه ليلعن يوم ولادته؟ هذا هو الموضوع الذي سوف نشاركه أدناه.
تحدّثت أعلاه عن أصل لعن أيُّوب يوم ولادته. ماذا ترون في هذا؟ إذا كان أيُّوب قاسي القلب وخاليًا من المحبّة، وإذا كان بارد العواطف وعديم المشاعر ومنعدم الإنسانيّة، فهل كان ليراعي رغبة قلب الله؟ وهل كان ليلعن يوم ولادته كنتيجةٍ لمراعاته قلب الله؟ وهذا يعني أنه إذا كان أيُّوب قاسي القلب ومنعدم الإنسانيّة، فهل كان ليتضايق لألم الله؟ هل كان ليلعن يوم ولادته لأن الله تضايق بسببه؟ الجواب كلا بالتأكيد! فلأن أيُّوب كان طيب القلب، فإنه راعى قلب الله؛ ولأنه راعى قلب الله، شعر بألم الله؛ ولأنه كان طيب القلب، تحمّل عذابًا أكبر نتيجةً لشعوره بألم الله؛ ولأنه شعر بألم الله، بدأ يلفظ يوم ولادته ومن ثمَّ لعن يوم ولادته. يعتبر الغرباء أن سلوك أيُّوب بأكمله خلال تجاربه مثاليًّا. أمّا لعنه يوم ولادته فيرسم علامة استفهامٍ على كماله واستقامته، أو يُقدّم تقييمًا مختلفًا. في الواقع، كان هذا أصدق تعبيرٍ عن جوهر إنسانيّة أيُّوب. فلم يُخفِ أحدٌ آخر غيره جوهر إنسانيّته أو يُغلّفه أو يُنقّحه. عندما لعن يوم ولادته أظهر طيبة القلب والإخلاص في أعماق قلبه؛ كان مثل ينبوع ماءٍ مياهه صافية شفّافة تكشف حتّى عن قاعه.
بعد معرفة هذا كلّه عن أيُّوب، سوف يكون لدى معظم الناس بلا شكٍّ تقييمٌ دقيق وموضوعيّ إلى حدٍّ ما لجوهر إنسانيّة أيُّوب. كما يجب أن يكون لديهم فهمٌ وتقدير عميقين وعمليّين وأكثر تقدّمًا لكمال أيُّوب واستقامته اللذيْن تكلم عنهما الله. نأمل أن يساعد هذا الفهم والتقدير الناس على السلوك في طريق اتّقاء الله والحيدان عن الشرّ.
من "عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (ب)" في "الكلمة يظهر في الجسد"