مظاهر إنسانيّة أيُّوب أثناء تجاربه (فهم كمال أيُّوب واستقامته واتّقاءه الله وحيدانه عن الشرّ أثناء تجاربه)
عندما سمع أيُّوب خبر نهب ممتلكاته وفقدان أبنائه وبناته ومقتل عبيده، كان ردّ فعله على النحو التالي: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى ٱلْأَرْضِ وَسَجَدَ" (أيوب 1: 20). تُخبِرنا هذه الكلمات حقيقةً واحدة: بعد سماع هذه الأخبار لم يكن أيُّوب مذعورًا، ولم يصرخ، ولم يلقِ باللوم على العبيد الذين أبلغوه بالأخبار، فضلاً عن أنه لم يُفتّش مسرح الواقعة للتحقّق والتأكّد من الأسباب والحيثيّات ومعرفة ما حدث بالفعل. لم يُظهِر أيّ ألمٍ أو ندم على فقدان ممتلكاته، ولم يَنْهَر باكيًا بسبب فقدان أولاده وأحبائه. ولكنه على العكس مزّق جبّته وجزّ شعر رأسه وخرّ على الأرض وسجد. تختلف أفعال أيُّوب عن أفعال أيّ إنسانٍ عاديّ. إنها تُربِك الكثير من الناس وتجعلهم يُوبّخون أيُّوب في قلوبهم بسبب "غلاظة قلبه". عندما يفقد الناس العاديّون ممتلكاتهم فجأةً، قد يبدون مكتئبين أو يائسين وقد يسقط بعض الناس في حالة اكتئابٍ شديد. يعود السبب وراء ذلك إلى أن الناس يرون، في قلوبهم، أن ممتلكاتهم تُمثّل تعب حياتهم وأساس بقائهم والأمل الذي يُبقِيهم على قيد الحياة؛ أمّا خسارة ممتلكاتهم فتعني أن جهودهم كانت بدون مقابل وأنهم بلا أملٍ وحتّى بلا مستقبلٍ. هذا هو موقف أيّ شخصٍ طبيعيّ تجاه ممتلكاته وعلاقته الوثيقة التي تربطه بها، وهو أيضًا أهميّة الممتلكات في أعين الناس. على هذا النحو، تشعر الغالبيّة العظمى من الناس بالارتباك بسبب موقف أيُّوب الهادئ تجاه فقدان ممتلكاته. واليوم سوف نزيل الارتباك بين جميع هؤلاء الأشخاص من خلال شرح ما كان يجري في قلب أيُّوب.
يقتضي المنطق السليم أنه بعد أن وهب الله أيُّوب مثل هذه الممتلكات الوفيرة يجب أن يشعر بالخجل أمام الله بسبب فقدانه هذه الممتلكات، لأنه لم يرعها أو يعتني بها ولم يحتفظ بالممتلكات التي منحها له الله. وهكذا، عندما جاءه خبر سرقة ممتلكاته، كان ينبغي أن يكون ردّ فعله الأول هو الذهاب إلى مسرح الواقعة وجَرْد كلّ شيءٍ مفقود، ومن ثمّ الاعتراف بالله لعلّه يتمكّن مرةً أخرى من نيل بركات الله. ومع ذلك، لم يفعل أيُّوب هذا – وكان من الطبيعيّ أن تكون لديه أسبابه الخاصة لعدم عمل ذلك. كان أيُّوب يؤمن إيمانًا عميقًا في قلبه أن جميع ما يملكه قد منحه إياه الله، ولم يأتِ نتيجةً لعمل يديه. وهكذا، لم يعتبر هذه البركات كشيءٍ يعتمد عليه، ولكنه اعتبر أن التمسّك بالطريق الذي ينبغي التمسك به بلا مهاودةٍ هو مبادئ عيشه. كان يُقدّر بركات الله ويشكره عليها، ولكنه لم يكن مُتيّمًا بها، ولم يطلب المزيد من البركات. كان هذا هو موقفه تجاه الممتلكات. لم يفعل شيئًا لنيل البركات، ولم يقلق أو يغضب بسبب نقص بركات الله أو فقدانها. لم يكن سعيدًا لدرجة الهوس والهذيان بسبب بركات الله، ولم يُهمِل طريق الله أو ينس نعمة الله بسبب البركات التي تنعّم بها كثيرًا. يكشف موقف أيُّوب تجاه ممتلكاته للناس إنسانيّته الحقيقيّة: أولًا، لم يكن أيُّوب رجلًا جشعًا، بل كان قنوعًا في حياته الماديّة. وثانياً، لم يقلق أيُّوب قط ولم يخش من أن يحرمه الله من كلّ ما كان لديه، وهو موقف طاعته لله في قلبه؛ وهذا يعني أنه لم تكن لديه أيّة مطالب أو شكاوى حول متى أو ما إذا كان الله سيأخذ منه، ولم يسأل عن السبب، ولكنه اكتفى بالسعي لطاعة ترتيبات الله. ثالثًا، لم يعتقد قط أن ممتلكاته جاءت من تعب يديه، بل إن الله منحه إياها. كان هذا إيمان أيُّوب بالله ومؤشرٌ على قناعته. هل اتّضحت إنسانيّة أيُّوب وسعيه اليوميّ الحقيقيّ في هذا المُلخّص المكوّن من ثلاث نقاطٍ عنه؟ كانت إنسانيّة أيُّوب وسعيه جزءًا لا يتجزأ من سلوكه الهادئ عندما واجهته خسارة ممتلكاته. كان السبب بالضبط وراء أن يكون لدى أيُّوب القامة والقناعة ليقول: "يَهْوَه أَعْطَى ويَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا" أثناء تجارب الله هو سعيه اليومي. لم تُكتسب هذه الكلمات بين عشيّةٍ وضحاها، ولم تخطر للتوّ على عقل أيُّوب، بل كانت تُمثّل ما رآه واكتسبه خلال سنواتٍ عديدة من اختبار الحياة. بالمقارنة بجميع مَنْ لا يطلبون سوى بركات الله، ويخشون أن يأخذها الله منهم كارهين هذا الأمر وشاكين منه، أليست طاعة أيُّوب واقعيّة للغاية؟ وبالمقارنة بجميع مَنْ يؤمنون بوجود الله ولكنهم لم يؤمنوا قط بأن الله يسود على جميع الأشياء، ألا يتّسم أيُّوب بأمانةٍ وبرٍّ عظيمين؟
عقلانيًة أيُّوب
كانت خبرات أيُّوب الفعليّة وإنسانيتّه البارّة الصادقة تعني أنه اتّخذ أكثر القرارات والخيارات عقلانيّةً عندما فقد ممتلكاته وأولاده. كانت هذه الخيارات العقلانيّة لا يمكن فصلها عن سعيه اليوميّ وأعمال الله التي عرفها خلال حياته اليوميّة. أمانة أيُّوب جعلته قادرًا على الإيمان بأن يد يهوه الله تسود على جميع الأشياء؛ وسمح له إيمانه بمعرفة حقيقة سيادة يهوه الله على جميع الأشياء؛ كما أن معرفته جعلته راغبًا في طاعة سيادة يهوه الله وترتيباته وقادرًا على الامتثال لها؛ ومكّنته طاعته من أن يكون أكثر صدقًا في اتّقائه يهوه الله؛ وجعله اتّقاؤه أكثر واقعيّة في الحيدان عن الشرّ؛ وفي نهاية المطاف، أصبح أيُّوب كاملًا لأنه كان يتّقي الله ويحيد عن الشرّ؛ وكماله جعله حكيمًا، ومنحه أكبر قدرٍ من العقلانيّة.
كيف يجب أن نفهم كلمة "عقلانيّ"؟ التفسير الحرفيّ هو أنها تعني أن يتّسم المرء بالمنطق السليم، ويكون منطقيًّا وراشدًا في تفكيره، وأن تكون كلماته وأفعاله سليمة وحكمه راجحًا، وأن يمتلك معايير أخلاقيّة سليمة ومتناسقة. ومع ذلك، لا يمكن تفسير عقلانيّة أيُّوب بسهولةٍ. عندما يقال هنا إن أيُّوب كان يملك أكبر قدرٍ من العقلانيّة، فإن هذا يتعلّق بإنسانيّته وسلوكه أمام الله. فلأن أيُّوب كان صادقًا، استطاع أن يؤمن بسيادة الله ويطيعها، مما منحه المعرفة التي لم يتمكّن آخرون من نيلها، وهذه المعرفة جعلته قادرًا على تمييز ما أصابه والحكم عليه وتحديده بدقة، ومكّنته من أن يختار بتفكيرٍ ثاقب أدقّ ما يجب أن يعمله وما يجب أن يتمسّك به. وهذا يعني أن كلماته وسلوكه والمبادئ التي تستند عليها أفعاله والطريقة التي تصرّف بها كانت منتظمة وواضحة ومُحدّدة ولم تكن هوجاء أو متهوّرة أو عاطفيّة. لقد عرف كيفيّة التعامل مع كلّ ما أصابه، وعرف كيفيّة إحداث توازن في العلاقات بين الأحداث المُعقّدة وكيفية التعامل معها، وعرف كيفيّة التمسّك بالطريق الذي يجب التمسّك به، وإضافة إلى ذلك، عرف كيفيّة التعامل مع ما يعطيه يهوه الله وما يأخذه. كانت هذه عقلانيّة أيُّوب. وبفضل أن أيُّوب كان مجهّزًا بمثل هذه العقلانيّة قال: "يَهْوَه أَعْطَى ويَهْوَه أَخَذَ، فَلْيَكُنِ ٱسْمُ يَهْوَه مُبَارَكًا" عندما فقد ممتلكاته وأبناءه وبناته.
– الكلمة، ج. 2. حول معرفة الله. عمل الله، وشخصيّة الله، والله ذاته (ب)